إعلان الرئيسية

الصفحة الرئيسية على هامش حوار بانيا: عبد الجابر حبيب

على هامش حوار بانيا: عبد الجابر حبيب

حجم الخط

عبد الجابر حبيب[1]

الهايكو الكلاسيكي

مشهد الطبيعة الذي لا يقبل الفوضى 

تقديم هايكو العالم:

نشرنا على هذا الموقع يوم 29 ماي 2025 حوارا[2] أجريناه مع الشاعر والهايجن والأكاديمي والمنظر المجدد في الهايكو، بانيا ناتسويشي، ما أثار ردود أفعال واسعة توزعت بين الحياد والقبول والرفض لما يدعو إليه ويدافع عنه، على نحو "ثوري"، تحت عنوان الهايكو المعاصر.

في هذا الصدد، توصلنا بمقال يخالف توجه بانيا وينتقد بعض النصوص التي أوردناها مع الحوار (من ترجمة: محمد عضيمة)، بل ويخرجها من صنافة الهايكو مشددا على مركزية الطبيعة لإنتاج هايكو جدير بهذا الاسم وجدير بالهايكو الكلاسيكي الذي ما يزال ثابتا ومرآة ومرجعا لا يمكن القفز عليه، وله عشاق وأتباع كثر. المقال بقلم: أستاذ عبد الجابر حبيب.

لا تجديد بلا جذر

رغم أنّني لست ضدّ أيّ تجديد في أيّ مجال من مجالات الحياة، بل على العكس تماماً، فإنّ ديناميكية التحوّل والحركة هي سُنّة الوجود، غير أنّ لكل تجديد شرطَه الأخلاقيّ والمعرفيّ الذي يُكسبه شرعيّة. ففي الأدب، لا يكون التجديد مقبولًا ما لم ينبثق عن تجربة عميقة، وقراءة متأنية في تراث النوع، لا محاولةً لنسفه أو إزاحته عن مقعده؛ فإن كان الجديد يجمّل القديم، فهو زيادة نور على نور، وإن كان يقطع صلته بالأسس الأولى فلا بأس شريطة أن يأتي بما هو أجمل، وأبقى، وأقرب إلى جوهر الإنسان لا إلى عبث المزاج أو استسهال "الاختزال".

الهايكو ليس ومضة، وتوقيعة

ينتمي "الهايكو" الكلاسيكي إلى ما يمكن أن نسمّيه بلاغة "الالتقاط"، حيث يتجلّى الجمال في لحظة من مشهد طبيعي، عابرٍ وغير مفتعل. تتكوّن قصيدة الهايكو من سبعة عشر مقطعاً صوتياً يابانياً (مورا)، تُوزّع على ثلاث وحدات (٥-٧-٥)، لكنها ليست تقطيع لفظي، بل ضربٌ من الرؤية الفلسفية الحادة، وحضور يقظ لما يدور في الطبيعة، وتحديداً لمفرداتها الموسمية (الكِيغو) التي تمنح النص انتماءه الزمني والبيئي. وإذا ما اختفى الكيغو، وفقد النص هذه العلاقة بالطبيعة، صار أقرب إلى السنريو الشقيق الآخر للهايكو رغم هذا الجانب يهتم بالمشعر الإنسانية ويتخلى عن الموسمية، وهو التقاطة من الحياة اليومية، أو التوقيعة أو الومضة أو حتى الشذرة الشعرية، وهذه لها جمالها الخاص — نعم — لكنها ليست هايكو.

باشو: حكيم الهايكو ونبض الطبيعة

يكفي أن نستحضر نصّاً واحداً لباسّو (1644–1694)، أبرز شعراء الهايكو الكلاسيكي، لندرك الفرق بين هايكو متأصّل وبين نصّ وجيز آخر يُشبهه في الطول ويخالفه في الجوهر:

على غصنٍ يابس

غرابٌ يهمُّ بالرحيل ـ

مساءُ خريفٍ

هذا المشهد، بكل بساطته، يختزن زمناً وجواً وعاطفةً وهدوءاً وجودياً لا يُمكن محاكاته بمجرد لغة جميلة. لم يقل باشو شيئاً عظيماً، لكنه أمسك بلحظة صافية حدّ السكون، فكان العظيم في الصمت لا في القول.

ومثله هذا النص الآخر:

بركةٌ قديمة

ضفدعٌ يقفز داخلها ـ

صوت الماء

ها هنا نسمع "صوت الماء"، لا لأنّ الشاعر قاله، بل لأنّ النص يتركنا نُصغي لما لا يُقال. هذا هو الهايكو، ليس تعليقاً ذهنياً على العالم، ولا إسقاطاً للذات، بل انمحاءٌ لها أمام حركةٍ بسيطة في الطبيعة.

ما ليس من الهايكو

    لقد قرأت كثيراً من النصوص التي يُشار إليها على أنها "هايكو"، وهي في الحقيقة أقرب إلى التوقيعات أو الومضات الشعرية، مثل هذين النصين للهايجن بانيا ناتسويشي المتمرد على الهايكو الكلاسيكي:

لا يمكنُ أن أحمِلَ إلى الحياةِ الآخرة

شهادةَ تقديرٍ

مملوءةً بالأخطاء المطبعية

نص يحمل سخرية رشيقة، ولكنّه لا يحتوي مشهداً طبيعياً، ولا تعبيراً عن لحظة كونية ساكنة. هي أقرب إلى التوقيعة الساخرة.

أو:

الدّماءُ التي تسقطُ

وتتطايرُ في أنحاءِ الكون

هي دموعُ الآلهة

 في هذا النص رغم الإيحاء الأسطوري، فإنه يخرج من إطار المشهد الحسّي الملموس، ليحلّق في مستوى تأمليّ فلسفي رمزيّ. هذا جميل في ذاته، ولكنه لا ينتمي إلى بنية الهايكو التقليدي.

نصّان جميلان، لكنّهما يميلان إلى المجاز والذاتية والتأمّل الذهني، وهي سمات تُبعدهما عن روح الهايكو الذي يُفترض فيه أن يكون التقاطاً صافياً لمشهد من الحياة، لا تعليقاً عليه أو اسقاطاً ذاتياً فوقه. وإن سلّمنا جدلاً بأنّ هذا هو التجديد الذي ينادي به بانيا، فأراه انتقالاً من ضفّة إلى أخرى، مع استبدال الضفّة الشرقية بتلك الغربية، ليغدو أدباً وجيزاً آخر يُشبه الهايكو شكلاً، دون أن يُشاركه جوهره — ويستحق عندها أن يُسمّى باسمٍ آخر، كالتوقيعة، أو الومضة الشعرية.

الهايكو ليس ماضياً منتهياً

     ثمّة من يزعم أنّ الهايكو الكلاسيكي مات بموت أساتذته الأربعة: ماتسو باشو، يوسا بوسون، كوباياشي إيسّا، وماساوكا شيكي. غير أنّ هذه الرؤية تنطوي على اختزال كبير، فكما أنّ الحياة لا تُختصر في سيرة أبطالها، كذلك لا ينتهي شكلٌ أدبي برحيل مؤسّسيه. لا يزال الهايجِن الحقيقي يجد في الهايكو الكلاسيكي ذلك المتنفس النقيّ للرؤية، واللحظة الشفيفة التي لا تتكرر، والوعي بالزمن في أقصر تعبير.

من الجذر يُزهر الجديد

      لا اعتراض على التجديد حين يزهر من جذرٍ عميق. بل إنّ التجديد الحقيقي هو ما يزيد النوع الأدبي جمالاً واتساعاً لا ما يُفرغه من مقوماته. أما من يدعو إلى التجديد دون معرفةٍ بالجذر، فإنه كمن يبني نافذةً في الهواء. ولعلّنا في عالم يتكاثر فيه الضجيج بحاجة إلى أن نتعلّم من الهايكو درس الصمت، ومن باشو دروس الإصغاء، لا إلى كلماتنا، بل إلى ما حولنا.



[1] هايجن وباحث في الهايكو- سوريا


ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق