إعلان الرئيسية

الصفحة الرئيسية عن التواضع الهايكوي

عن التواضع الهايكوي

حجم الخط


محمد بنفارس-المغرب

عن التواضع الهايكوي

مرة أخرى 

تقديم

نعود، مع تحيين وسياق مستجد، لموضوع "التواضع الهايكوي" بالنظر لما يطبع الظاهرة من استفحال وتلاوين تتوزع بين الاستعلاء والإقصاء والتغييب والإنكار. الظاهرة إياها أخذت أبعاد الحرب الباردة وأحيانا المعلنة في المنطقة العربية على وجه الخصوص وكأن الأمر يتعلق بتملك شيء ليس من نتاجنا بتوظيف شتى الوسائل، بدل العمل بهدوء وانفتاح وتواضع على تقبل واستدماج ونشر فن جديد والاجتهاد في تطوير وتنمية ذائقة المتلقي العربي وتخليصها من تقليد شعري يجثم على القلوب والعقول منذ قرون.

وبديهي فلن يكون من مهامنا إسداء النصح أو توجيه درس في الأخلاق أو عرض خطبة في نعم الجنة أو سراط جهنم. قد يصنفنا البعض في باب التوجيه الأخلاقي، نقول له لا بأس ما دام الأمر يتعلق بعشق الهايكو. غير أننا هنا في مجال الأدب والفن والإبداع بصدد نوع من القول نشأ في بيئة تختلف جوهريا عن بيئتنا وبيئة الغرب أيضا. ونعني بها ثقافة وتراث اليابان. ومعلوم أن الهايجين منذ تميز الهايكو عن غيره من أنماط الشعر الياباني، اتسمت حياتهم بالبساطة والتقشف والشعور بمحدودية الذات في فضاء لا محدود مليء بالغموض ومناسبات التعلم. فتوزعت حياتهم، بشكل عام، بين الرهبنة والترحال في الطبيعة بعيدا عن التمدن، والتسكع هروبا من مظاهر الترف والتعالي وانتفاخ الذات. فأعطوا بذلك مثالا على ضعف ومحدودية الذات البشرية ضرورة تماهيها مع عناصر الطبيعة والحياة بحثا عن نهج حياة مغاير وطريق لصفاء متاح.

نقول هذا، ونحن نلحظ ما يواكب تجربة الهايكو العربية من انحراف عن الهايكو من فرط التمركز حول الذات، ومن صراعات استباحت الأعراض وأباحت كل أنواع الضرب باعتزاز مغال ورغبة جامحة في إبادة الآخر. وهذا الغرور، إن لم يتخذ أشكالا تصادمية عنيفة، فإنه يأخذ أشكال المسكنة والمواربة بغاية سيطرة ذات متضخمة كامنة، وقد يتعلق الأمر أيضا بتطاول البعض ومحاولة تقمص دور هو أكبر بكثير من إمكاناتهم.

وعلى عكس الشعر، وخاصة في الملتقيات والمهرجانات، عندما ينبري الشعراء للخطابة والإثارة واللغوية في استعراض سمته رفع الصوت وتشكيل التمثيل بالإشارة والحضور بالجسد للتأثير على المشاهد (ولا أقول المستمع)، فإنه من نافلة القول التذكير بأن الهايكو، كما يفهم من فلسفته ومن سياقاته ومنابعه الأولى، هو نهج لتواضع خالص، وطريق صامت تكتفي فيه "الأنا" بمكانها الطبيعي ضمن منظومة كونية شاملة ومندمجة. على أن التواضع في الهايكو لا يشمل فقط المؤلف (الهايجن) بل كل المشتغلين به من دارسين ونقاد ومترجمين وقراء.

 

1.     الهايجن

الهايكو هو مجال الهايجن أولا. فما ينبغي أن يتحلى به، قبل أي شيء آخر، هو التواضع (Humilité) إن خصلة التواضع تمرين صعب وتحد للذات، ولكن الهايجن المتشرب بالهايكو كفن وفلسفة يستطيع الانتصار على أناه إن كان من حظه خوض تجربة هايكوية صادقة عن طريق التعلم والممارسة وحسن الإنصات للمحيط كما هو.

فتواضع الهايجن ضرورة على عدة مستويات. صحيح أن على الهايجن التمتع بقدر من الثقافة الهايكوية ونصيب وافر من الموهبة، ولكن أيضا وبخاصة على "بركة" (بفتح الباء والراء) من التواضع. فمن يؤلف الهايكو، وجب أن يترك ذاته وراءه، فلا يصح أن يسقطها على الأشياء وعناصر الطبيعة والكون. كما لا يبغي أن ينتظر من الأشياء والعناصر أن تستجيب لنزواته أو تتلون بأصباغه.

فالأشياء هي كما هي في الطبيعة والمحيط، لا تتأثر بنا لا إيجابا ولا سلبا، ولا يجوز بل لا نستطيع التأثير عليها ولو حاولنا بكل حمولتنا الذاتية وأقنعتنا المكتسبة. بل يمكن الزعم أنه إذا انتفى شرط التواضع، ضاع الهايكو لكون الشاعر المتعالي أو المزيف لا يمكن أن يشعر بالأشياء والناس من حوله. فعلى من يروم طريق الهايكو التحلي بالتواضع "الطبيعي" والتسليم بذلك إن شاء تصالحا صادقا ومكانا مستحقا ضمن أهل الهايكو. من جانب آخر، فإن التواضع في الهايكو لا يعني صك براءة للهايجن من حيث هو إنسان له ذاكرة ومسار شخصي وميولات وقناعات وهواجس وطموحات (أقلها هايكوية). على أن الهايجن، رغم التواري الظاهر، حاضر فيما يكتب ابتداء من الموضوع وانتهاء بالمنتوج، لكون ممارسة الكتابة فعل واع يتطلب اختيارا وانتقاء ومحوا وتعديلا وقرارا. وهو حاضر في الهايكو بفعل الحقن الوجداني المتأتي من التجربة التي خبرها وتأثر بها والتي يتشاركها مع الناس. ما يعني أن الوجدان مرتكز أساس في الهايكو، والوجدان هو الهايجن الذي يشكل المنتوج وليس جهة أخرى غير معلومة. ومن هنا فإن الحديث عن تنحي الهايجن بالمعنى المطلق أسطوانة ينبغي القطع معها ونحن نواكب ما يشهده الهايكو من تطور وتجريب على المسرح العالمي وفي اليابان بالذات. فعندما نقول: هذا أسلوب باشو[1] وذاك أسلوب شيكي[2]، أين التنحي يا ترى؟ أو ليس الهايجن موجود في كل كلمة يخطها؟

 

2.     الدارس والناقد

هناك طرف ثان له علاقة بالهايكو ليس من باب التأليف، ولكن من مدخل الدراسة والنقد. فمن يتولى أو ينتصب للتنظير ومقاربة الهايكو، فلا مناص له من التحلي بقيمة التواضع، لأننا هنا لسنا بصدد العلوم الحقة، ولكن بمجال تطبعه النسبية والقدرات الشخصية والذائقة الفردية.

لن يصار بنا إلى مسألة النقد والنقد الأكاديمي أو الجامعي، والمقاربات النقدية، ولا مسألة كفاءة أو قلة نقاد الهايكو بالعالم العربي وقضايا أخرى لها علاقة بما ينشر من دراسات وآراء. بل سأكتفي باستعراض ما أعايشه كملاحظ لأداء من ينزوي لدراسة ما له علاقة بالهايكو.

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن أسوأ شيء يمكن أن يسجل في تاريخ الأدب وتاريخ الهايكو على الخصوص، هو صناعة المديح لفائدة كاتب أو شاعر أو هايجن بما لا يتوفر فيما يكتبوغني عن البيان أن تاريخ الأدب، في هذا الصدد، لا يرحم كما أنه ليس في وارد تسجيل السفسطة أو هرطقات المدعين من "نقاد" و"منظرين" وغيرهمكما أن أقبح شيء يمكن أن يحصل، هو حشو نص هايكو بما ليس فيه. بل هو أسوأ من عدم الانتباه لإشارة جمال يمكن أن تكون كامنة أو ظاهرة في مفاصل النص إياه.

صحيح أن من يتصدى للهايكو بالدراسة والنقد، يحتاج إلى معرفة ومدخرات يوظفها في عمله. كما أنه يحتاج إلى جرعة من الحب لما يقوم به وإلى ذائقة جمالية غير عادية. غير أنه أخيرا وأساسا، هو في حاجة إلى التواضع. التواضع هنا بمعنى احترام نفسه أولا، واحترام المادة التي يشتغل عليها، وثالثا احترام الآخر، أي القارئ والمتلقي. كما أن مقاربة نص تكون بدعوة وإثارة من مؤشرات جمالية في مكونات الهايكو، وليس تصيدا مبيتا بغرض الهجو والانتقاص ومهاجمة الناس، كما هو الحال عند من ابتلي بهم الهايكو في قبائل العرب والذين يتوقون لمجد زائف عن طريق تحطيم وتحريف منجز الآخرين.

فعلى من يضطلع بهذه المهمة - مهمة قراءة ودراسة الهايكو- ألا يعتقد أنه في بيداء خلاء لا يتابع ولا يقرأ فيها أحد. فشيء من التروي وكثير من التواضع. خاصة وأن المجال هنا لا يدخل تحت عنوان اليقينيات والحقائق، إنما هو باب للاجتهاد والتنسيب والرأي الذي يجمع بين إعمال الأدوات والمقاربات التحليلية والقدرة القرائية والذائقة المتقدة أيضا.

 

3.     المترجم

من بين الذين ارتبط اسمهم بالهايكو في العالم والعالم العربي هم المترجمون. فعن طريقهم خرج هذا الفن من اليابان وانتشر في أمريكا وبريطانيا وفرنسا ومن تم إلى المنطقة العربية بواسطة الإنجليزية والفرنسية. وفي فترة لاحقة تمت ترجمة الهايكو مباشرة من اللغة اليابانية إلى العربية.

لماذا كان على مترجم الهايكو أن يتحلى بالتواضع؟ إن المتتبع يعرف أن ترجمات نص ضفدعة باشو فاقت العشرات من الصيغ في كل لغة على حدة. ما يعني ألا وجود ليقين أو صيغة وحيدة في الترجمة، وأن هذا اللايقين يزداد منسوبه مع نص هو من أقصر النصوص على الإطلاق. فالهايكو، بخاصية التكثيف وخاصيات أخرى لا تقل أهمية، لا يترك مجالا واسعا لمناورة المترجمين.

ومن هنا، فوصف بعضهم المترجم بالمبدع أمر مجانب للصواب بل لا معنى له مطلقا. المبدع هو من يؤلف النص الأصل. أما المترجم فهو قارئ لنص ويعيد كتابة ما وصل إليه من فهم وتأويل انطلاقا من جملة خيارات يحسم في واحدة منها بقرار منه. وكل ذلك وفق شخصيته وتكوينه وذوقه وكفاياته القرائية. معنى هذا أن النص الهدف يمكن أن يختلف عن النص المنطلق حسب عدد المترجمين. من جانب آخر، فإن النص المتحصل عليه من العملية الترجمية لن يكون أبدا هو النص الأصل ولا حتى شبيها له، بل هو نص أخر تماما.

ولذلك على مترجم الهايكو ألا يصاب بالغرور أو يركبه الزهو بالنفس. فما يعتقده مترجم صحيحا أو أقرب إلى النص المنطلق قد لا يكون كذلك ارتكازا على قراءة متسرعة أو خاطئة أو قرار لغوي أو تعبيري لم يكن في محله.

وتجدر الإشارة إلى أن كثيرا من الترجمات العربية للهايكو في المراحل الأولى شابها نقص وتشوهات لأسباب منها: الترجمة عن لغات وسيطة (انجليزية وفرنسية)، ضعف القدرات القرائية والتأويلية لدى المترجم، جل المترجمين لم يكونوا شعراء هايكو ولم يكن لهم إلمام كاف بالنوع.

 

4.     المتلقي

القارئ أو المتلقي جزء من دائرة الهايكو. فإليه يتوجه الهايجن بعد عملية التأليف. وإذا كان الناس في اليابان يتعلمون تذوق الهايكو على نطاق واسع في المدارس والجمعيات، فإنهم في دول غربية يتوجهون لأندية وانشطة خاصة تتكفل بهذه المهمة، ومنهم من ينتقل إلى التأليف بعد أن يتشرب النوع بشكل عميق. ولذلك فالهايكو ليس "بركة" تسقط من السماء وحسب، ولكن التنشئة والتكوين يلعبان دورا لا يمكن إنكاره. دليلنا هو أن عددا من شعراء الهايكو الكبار تتلمذوا على معلمين سابقين، كما أن الأساتذة الكبار، ومنهم ماتسو باشو، أسسوا مدارس لتعليم الهايكو وتخرج على أيديهم تلامذة معروفون حملوا المشعل من بعدهم تدريسا وتأليفا.

مناسبة هذا الحديث هو أن الهايكو ليس مزحة أو لعبة لتزجية الوقت. بل ممارسة تتطلب الجدية والاستعداد والدربة. ولما كان الهايكو كذلك، فعلى المتلقي أن يتسم بالتواضع وطلب المعرفة من أجل تنمية الذوق ومراكمة الخبرة. لا يمكن نكران "بركة" الموهبة، غير أن تاريخ الهايكو يخبرنا أن التعلم والاطلاع والإنصات للعارفين والأساتذة مسألة حيوية لمن يريد دخول العالم السحري للهايكو تذوقا ومتعة وتأليفا.

غير أن ما يلاحظ على المتلقي العربي، هو قلة القراءة بل غيابها تماما عند كثيرين. وقد يرجع ذلك إلى آفة الجهل وقلة الوعي بقيمة القراءة، وإلى ضعف أو غياب خصلة التواضع التي تعتبر المفتاح السحري في عملية التعلم والإنصات لمن يفوقوننا علما وتذوقا لفن الهايكو.

على القارئ العربي، وخاصة المبتدئ بالهايكو، أن يتحلى بالتواضع إن هو شاء تطوير قدراته المعرفية وتنمية ذائقته للاستمتاع بفن له سياقات وخصوصيات وحامل لشعرية جديدة. وعليه، من جانب آخر في حال نقص الخبرة في مرحلة التعلم والتلقي الاولي، الإحجام عن التقييم وإصدار الأحكام.

 

خاتمة

نخلص إلى أن الهايكو كنوع وجد تربته في أحضان الطبيعة الخالصة وعلى يد شعراء تلقوا تنشئة قيم التواضع ونكران الذات واحترام الآخر والمخلوقات، شعراء تشربوا التقشف والزهد من ثقافة عريقة ذات ذوق رفيع تحتفي بالجمال وتقدس العيش المشترك في محبة وسلام وتكامل مع الطبيعة.

ولذلك فإن الهايكو لن يكون أبدا منصة للتراشق والتناحر وإشعال الحرائق، ولن يكون مطية لمن تضخمت أناهم على نحو خرافي، فباتوا مستعدين لتنفيذ التصفيات الفردية والجماعية وإقصاء الرأي المخالف. كما أنه لن يكون أبدا في متناول متلق لا يقرأ ولا يبحث ولا ينصت.

وإذا كان هناك من تنافس، فينبغي أن يكون في اقتفاء أثر الجمال الخالص حيث هو ونشره بين المتذوقين، والرفع من الحس الجمالي والذوق الشعري عند الناس.

الهايكو مسار فلسفة روحية قوامها تواضع وطمأنينة وصفاء وذوق، أكان المشتغل بالهايكو هايجنا أو أكاديميا أو ناقدا أو مترجما أو قارئا أو حتى مالكا لنادي أو مجموعة أندية هايكو.



[1] ماتسو باشو (1664-1694) شاعر ياباني يعتبر مؤسس الهايكو

[2] ماساوكا شيكي (1876- 1902) وضع اسم الهايكو ومجدد بحيث يعتبر أب الهايكو الحديث في اليابان


ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق