إعلان الرئيسية

الصفحة الرئيسية قراءة في: أسراب الزرازير

قراءة في: أسراب الزرازير

حجم الخط

 

عبد الجابر حبيب-سوريا 



 أسراب الزرازير





سحاباتٌ سوداءُ

تتبعُ أثرَ المحراثِ

أسرابُ الزراريرِ

أمير هاشم سليم - العراق

 


منذ اللحظةِ الأولى يمنحُنا النص انطباعاً بأنّه ثنائيُّ المشهدِ؛ مشهدٌ توري أواسيه يعتمدُ على التوازي بين العلوّ والسفلي، بين السماءِ والأرضِ.

ورغمَ أنّ الهايكست لم يستخدمِ الـ كيرِجي (القطع) الذي يفصلُ عادةً بين الصورتين في الهايكو الياباني، إلّا أنّ غيابه بدا مقصوداً؛ ليُبقي حركةَ النصّ منسابةً وسريعةً، كأنّها كاميرا تتحرّك دونَ انقطاعٍ، تلتقطُ المشهدَ في لحظتهِ الآنيةِ. فالسُّحبُ السوداءُ لا تتيحُ للعينِ أن تتوقّف، بل تدفعُها إلى المضيِّ، إلى المتابعةِ، إلى الالتقاطِ الفوريِّ لما يراهُ الشاعرُ.

بهذا، يصبحُ القارئُ شريكاً في الرؤيةِ لا متلقِّياً، كأنّه يقفُ بجانبِ الشاعرِ، يرقبُ تلك السماءَ المثقلةَ بالهيبةِ المخيفةِ، وهي تتحرّكُ في صمتٍ يُنذرُ بالعاصفةِ. تلك السحاباتُ السوداءُ التي جعلَ منها الشاعرُ خلفيّةً جوّيةً للمشهدِ، تحوّلت في الوقتِ نفسهِ إلى مرآةٍ نفسيّةٍ تعكسُ انفعالَ الذاتِ.

يبدو وكأنّ الشاعرَ يُخبرُنا أنّ ما نراهُ ليس ظاهرةً مناخيّةً عابرةً، إنّما إشارةٌ إلى حالةٍ داخليّةٍ من الاضطرابِ والترقّبِ؛ فهي تُنذرُ، تُهدّدُ، وتقتربُ من حدِّ الانفجارِ كماءٍ يتدفّقُ من سدٍّ انهارَ فجأةً، وكأنّ الطبيعةَ ذاتَها تختبرُ وجدانَها أمامَ ما يجري في الأرضِ.

لقد استطاعَ الشاعرُ أميرُ هاشمٍ سليم أن يزرعَ في ذهنِ القارئِ حالةً من التوتّرِ الجميلِ، ذاكَ الخوفَ اللطيفَ الذي يسبقُ التحوّلَ، أو ما يمكنُ تسميتُهُ بـ هدوءِ العاصفةِ الكونيّ.

ومعَ هذا الإحساسِ العميقِ، يتسلّلُ إلى النصّ اليوغِن — الغموضُ الجماليُّ الخفيفُ الذي يُضفي على الصورةِ ظلالاً من الحيرةِ دونَ أن يُثقِلَها. ما يجعلُ النصَّ مفتوحاً على احتمالاتٍ عديدةٍ:

هل هذه السُّحبُ إيذانٌ بمطرٍ قادمٍ؟

أم رمزٌ لحزنٍ داخليٍّ يختبئُ في الشاعرِ؟

أم أنّها مشهدٌ حركيٌّ عابرٌ، تأمّلهُ في لحظةِ سكونٍ كأنّها ومضةُ برقٍ عابرةٌ بينهُ وبينَ السماءِ؟

ثمّ ينتقلُ بنا الهايكست بخفّةٍ محسوبةٍ إلى السطرِ الثاني: تتبعُ أثرَ المحراثِ"

وهنا يتحقّقُ التحوّلُ الجماليُّ الذي يُشبهُ حركةَ العدسةِ حينَ تتركُ الأفقَ وتهبطُ نحوَ الأرضِ.

نحنُ الآن أمامَ مستوى بصريٍّ جديدٍ؛ حركةُ السُّحبِ تُقابلُها حركةٌ أخرى أرضيّةٌ، أثرُ المحراثِ الذي يشقُّ التربةَ، يفتحُها للحياةِ، ويتركُ خلفَهُ مساراً يُشبهُ الذاكرةَ.

هل تتبعُ السُّحبُ أثرَ المحراثِ؟ أم أنّ هناكَ كائناتٍ — ربّما طيورٌ أو نسائمُ — تتعقّبُ تلكَ الخطوطَ التي رسمَها الفلّاحُ في الحقلِ؟ إنّها خياراتٌ تأويليّةٌ متعدّدةٌ، لكنّ جميعَها تلتقي في نقطةٍ واحدةٍ: العلاقةُ بينَ السماءِ التي تهطلُ، والأرضِ التي تنتظرُ.

ثمّ تأتي لحظةُ الكشفِ، ما يُعرفُ في الهايكو بـ الساتوري، أي لحظةُ الاستنارةِ التي تُضيءُ المشهدَ وتحرّرُ المعنى من قيودِ الغموضِ والحيرةِ. حيثُ يأتي السطرُ الثالث "أسرابُ الزرازيرِ" فينقشعُ الغموضُ عن الصورةِ الأولى. فما ظننّاهُ سحباً لم يكن سحباً على الإطلاقِ، بل أسراباً من طيورِ الزرازيرِ التي ملأت السماءَ بحركتِها الجماعيّةِ المدهشةِ، حتى بدت من بعيدٍ ككتلٍ غيميّةٍ سوداءَ.

وهكذا تتحوّلُ الرؤيةُ من الطبيعةِ إلى الحياةِ، ومن السكونِ النفسيِّ إلى الإيقاعِ الحركيِّ الممتعِ، في انزياحٍ بصريٍّ ساحرٍ يجسّدُ جوهرَ الساتوري، بوصفِه انفتاحاً مفاجئاً على الحقيقةِ الكامنةِ خلفَ المظهرِ.

تكشفُ الصورةُ الأخيرةُ عن الكيغو الموسميِّ بوضوحٍ؛ فأسرابُ الزرازيرِ في ترحالِها، أو تجمّعِها، تُحيلُ إلى الخريفِ، فصلِ الانتقالِ والهجرةِ والنهاياتِ المتجدّدةِ.

هنا تكتملُ الدورةُ الرمزيّةُ للحياةِ: الحراثةُ، الأرضُ، الطيورُ، الغيومُ — جميعُها رموزٌ لحركةِ الوجودِ بينَ الذهابِ والعودةِ، الفقدِ والبدايةِ، الموتِ والحياةِ.

يبدو كأنّ الشاعرَ يرصدُ المشهدَ الختاميَّ لدورةٍ كونيّةٍ: طيورٌ مهاجرةٌ تستريحُ قليلاً في محطّتِها قبلَ متابعةِ رحلتِها الطويلةِ. تلكَ الاستراحةُ ليست إلاّ صورةً مكثّفةً للحياةِ ذاتِها؛ محطّاتٌ من الرحيلِ والعودةِ، من الاستقرارِ والارتحالِ، وربّما من الوجودِ واللاوجودِ.

في هذا النصّ، تتضافرُ تقنياتُ الهايكو الثلاثُ:

الكيغو (العنصرُ الموسميُّ)،

الساتوري (الاستنارةُ المفاجئةُ)،

واليوغِن (الغموضُ الجماليُّ)،

لتُشكّلَ وحدةً فنيّةً متناغمةً لا تعتمدُ على البيانِ أو الزخرفةِ، بل على السكينةِ التأمليّةِ والمشهدِ الكثيفِ.

لقد أبدعَ الشاعرُ أميرُ هاشمٍ سليم في أن يجعلَ من مشهدٍ بسيطٍ لحركةِ الطيورِ فوقَ حقلٍ محروثٍ أن يُشكّلَ في ذهنِ الهايكست سحباً تذهبُ به إلى تجربةٍ وجوديّةٍ مكثّفةٍ تضعُ القارئَ أمامَ الأسئلةِ الكبرى:

هل العودةُ ممكنةٌ؟

هل الهجرةُ نهايةٌ أم بدايةٌ؟

وهل الغيمُ الذي نراهُ هو غيمٌ حقّاً، أم أرواحٌ تهاجرُ في هيئةِ طيورٍ من نورٍ وعتمةٍ؟

هل أرادَ الهايكست مزجَ الألوانِ في لوحتِه التجريديّةِ التي تضمُّ الغيمَ والطيورَ السوداءَ؟

إنّه نصٌّ لا يقولُ الكثيرَ، لكنّه يُوحي بكلِّ شيءٍ. يتركُنا في دهشةٍ صامتةٍ، تماماً كما تفعلُ أسرابُ الزرازيرِ حينَ تملأُ السماءَتُخيفُنا قليلاً، لكنّها في الوقتِ ذاتهِ تُبهجُنا بجمالِ حركتِها واتّحادِها.

فالهايكو الذي لا يتركُ أثراً، ليس بهايكو؛ إنّما ومضةٌ عابرةٌ تنطفئُ في الذاكرةِ قبلَ أن تكتملَ دهشتُها، وفي هذا الصدد هناك قول للأستاذ محمود الرجبي "الهايكو الذي لا يترك أثراً ليس سوى خربشة على وجه الورقة البيضاء."

نعم. لقد تركَ هذا النص أسئلتَهُ معلّقةً في ذهنِ القارئِ عن الهجرةِ التي لم تنتهِ، وعن الغيمِ الذي قد لا يكونُ غيماً، بل أرواحاً تبحثُ عن وطنٍ في فضاءِ المعنى.


ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق