إعلان الرئيسية

الصفحة الرئيسية قراءة في: نافورة الأمنيات

قراءة في: نافورة الأمنيات

حجم الخط

 

عبد الجابر حبيب- سوريا

 


نافورة الأمنيات 




 



هذا النصّ حصل على المركز الثاني في مسابقة رواق الهايكو – نسخة الهايجن الأردنية د. ثراء محمد.

كريم فارس - العراق

نافورة الأمنيات

يَرمي قطعةً نقديّةً

أعمى مبتسم.


الهايكو، كما هو معروف لكلّ مَن جاور هذا الفنّ، ليس مجرّد نصٍّ صغيرٍ يتألّف من سبعةَ عشرَ مقطعاً صوتيّاً، بل هو ومضةُ وعيٍ كونيٍّ، تلتقط الطبيعةَ في لحظةِ صفاءٍ، دون أن تتدخّل فيها يدُ الشاعر إلّا كمرآةٍ صافيةٍ تعكس ما رأت.

لكنّ في قلب هذا الهدوء الياباني، يكمن الإنسان؛ كائنٌ من الطبيعة، لا خارجها، كما قال الشاعر الأردني محمود الرجبي: "كيف ترى أن الحلزون جزءٌ من الطبيعة، ولا ترى الإنسان كذلك؟"

هذه المقولة تُنير طريق قراءتنا لنصّ كريم فارس، إذ نجد في “نافورة الأمنيات” انزياحاً خفيفاً من مشهد الطبيعة إلى مشهدٍ إنسانيٍّ نابضٍ بالحياة، وهذا ما يجعل النصّ أقرب إلى هايكو البشر (Ningen Haiku) أو ما يُعرف بـ السنريو، الذي يركّز على الحياة اليومية، الناس، العادات، والمشاعر أكثر من التعلّق بالعناصر الطبيعية وحدها.

فالمشهد هنا ليس عن طائرٍ أو زهرةٍ أو غيمةٍ عابرة، بل عن قلبٍ بشريٍّ يُلقي قطعةَ نقدٍ في ماءٍ راقصٍ، باحثًا عن أملٍ لا يُرى.

من السطر الأوّل (نافورة الأمنيات)، يضعنا الهايجن في فضاءٍ حضريٍّ مألوفٍ، ولكنّه يُغمر بسحرٍ رمزيٍّ.

ليست النافورة مجرد بناءٍ حجريٍّ تتدفّق منه المياه، بل هي مسرحُ الرغبات، حيث تتقاطع أصوات المارّة، وضحكات الأطفال، وخفقات القلوب التي تطلب معجزةً صغيرة.

المشهد هنا مزدحمٌ، مشرقٌ، لكنه يحمل في أعماقه سؤالاً خفيّاً عن معنى التمنّي نفسه: هل يكفي أن نرمي قطعةً معدنيّةً لنقنع أنفسنا بأنّ شيئًا سيتغيّر؟

ثمّ تأتي حركة اليد في السطر الثاني (يرمي قطعة نقديّة) كـ مفصلٍ بصريٍّ حركيٍّ، وكأنّ الشاعر التقط اللحظة ذاتها التي تجمّدت فيها القطعة بين الهواء والماء.

هذه الومضة تتألّق بتقنية الـ يوغِن، الغموض المضيء الذي لا يشرح ولا يصرّح، بل يفتح باباً للخيال والتأمّل. فنحن لا نعرف مَن الذي يرمي، ولا ما أمنيته، لكنّنا نحسّ بثقل تلك القطعة وهي تغوص في أعماق الماء، كأنّها حلمٌ صغيرٌ يسقط في قلبٍ كبيرٍ منهك.

غير أنّ المفاجأة الجمالية تأتي في السطر الثالث (أعمى مبتسم) — لحظة التحوّل، لحظة الـ ساتوري، الاستنارة الفجائية التي تكشف المعنى وتفتح نوافذ الدهشة في روح القارئ. هنا ينقلب المشهد رأساً على عقب: لم يكن الراوي يتحدّث عن الجمع، بل عن فردٍ وحيدٍ يبتسم في ظلامه.

ابتسامته تُضيء النصّ كشمعةٍ في ليلٍ إنسانيٍّ كثيف. وهنا... تتحدث إلينا نافورة الأمنيات. فيغدو الماءُ صوتاً داخلياً خافتاً، يهمس في أعماق كلّ مَن اقترب منها: ارمِ حلمك، لا لتستجدي القدر، بل لتستيقظ فيك الحياة من جديد. لقد تحدثت لنا نافورة الأمنيات بلسانٍ مائيٍّ شفاف، تُخبرنا أن الأمنيات ليست طلبًا من الخارج، بل ارتعاشة من الداخل.

أن كل قطعة نقدٍ تُلقى في جوفها ليست مجرد معدنٍ بل نبضةُ رجاءٍ إنسانيٍّ تتردّد بين الماء والسماء. وفي لحظة ابتسام الأعمى، كانت النافورة تنصت؛ كانت تمنحه ضوءًا غير مرئيٍّ، ليبصر به ما لا تراه العيون. هذا “الأعمى المبتسمهو صورة الإنسان في أسمى حالاته الروحيّة — الرؤية الباطنية التي تتجاوز الحواسّ. ربّما لم يرَ الماء ولا بريق القطعة، لكنه رأى بالأمل، أدرك أن الجمال لا يحتاج إلى عيونٍ مفتوحة بل إلى قلبٍ مبتهج.

هنا تتجلّى تقنية السابي — جلال البساطة والسكينة التي يولّدها الزمن والحزن — إلى جانب الوابي، جمال النقص، ودفء الأشياء غير الكاملة. تمامًا مثل ذلك الشعور الناقص عند الإنسان الذي فقد البصر، ولكنه لم يفقد الشعور بإنسانيّته، ولم يتخلَّ عن حقّه في أن يحلم ويبتسم.

في هذا النصّ القصير، ينجح كريم فارس في تحقيق التوازن بين المشهد الخارجي والداخلي، بين الحركة والتأمّل، بين العين والقلب. كلّ كلمة فيه تحمل أكثر مما تُظهر:

النافورة صوتُ الحياة، وصوت اللحظة التي ينسى فيها الأعمى أنه أعمى، والقطعة النقديّة فعلُ الإنسان البسيط الذي يخلق الأمل من الرماد، أما ابتسامة الأعمى فهي الإدراك الروحيّ الذي يسمو فوق الظاهر، ويحوّل الظلام إلى نورٍ داخليٍّ عميق.

إنّه نصّ يقطر وعياً جماليّاً وإنسانيّاً في آنٍ واحد، يُذكّرنا بأنّ الحلم، مثل الماء، لا يُمسك باليد، ولكنّه يُنعش القلب كلّما اقتربنا منه.

نصّ كريم فارس يبرق بتقنيات الهايكو من القطع (كيري)، المفارقة الشعوريّة، الومضة التأمّليّة، والانتقال من الواقعي إلى الإنساني دون أن يفقد عفويته.

وقد تماهى الشاعر مع روح السنريو، فحوّل لحظةً عابرة في ساحة المدينة إلى تأمّلٍ في جوهر الإنسان وأمنيّته الأبدية: أن يرى النور، ولو للحظةٍ واحدة، في عتمة الحياة.


ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق