![]() |
محمد بنفارس- المغرب |
الهايكو
من الموضوع الشعري إلى المناخ الشعري
تقديم
إن ماهية العملية الإبداعية وجوهرها في
كل الفنون هو إنتاج الجمال. والهايكو كفن لا يحيد عن هذه القاعدة العامة. بالمقابل
فإن جوهر الفكر والعقل هو العمق. وهو كل ما يتعلق بالتفلسف والسياسة والاجتماع
والدين وكل أصناف الأيديولوجيا اللصيقة بالمجتمعات والإنسان.
غير أنه إذا أدمج العمق (بالمعنى الفلسفي والوجداني) بفنية في
العمل الفني سنكون أمام لوحة تجمع بين الجمال واللمسة الفلسفية دون تفلسف فج أو عقلانية
مباشرة.
وبناء عليه، نعتقد أن نص الهايكو إن هو خلا
من الجمال وانبرى لتمرير الفكر والعمليات العقلية والتفسيرية والسرد والتصوير
السطحي والصنعة اللغوية، فإنه يفقد أهم مبرر وجوده، أو لنقل، على نحو دقيق، مصوغ
انتسابه للهايكو، ألا وهو الجمال.
ليس للهايكو من موضوع إلا الهايكو نفسه
من جهة أخرى يمكن القول، ومن خلال اطلاعنا
على نصوص لهايجن عبر الأزمنة والجغرافيا، أن الهايكو الذي يتوفق في الجمع بين
الجمال والعمق، تتحقق فيه ما نطلق عليه "شعرية المناخات المشهدية" في
مقابل "شعرية الموضوعات" التي تسود في الشعر. وبالتالي تتحقق فيه سمة من
أهم السمات التي ينبغي أن تميز الهايكو. فالهايكو
في نهاية المطاف ليس له من موضوع إلا الهايكو نفسه.
شعرية المناخات المشهدية تقوم على المشهد الملموس
ونقصد بشعرية
المناخات المشهدية الانطلاق من المشهد المحسوس بلغة سهلة لشد انتباه المتلقي
وتعميق اهتمام السؤال لديه، ما يجعله ينسلخ في لحظة عن واقعه في ملاقاة واقع هو
مدعو لاكتشافه لحد اندماج وجداني كامل. على أن بلوغ هذه الدرجة من الإبداع والأصالة
ليس متاحا للكاتب العادي، ولا يتأتى بكثرة الكتابة، أو بالنشر هنا وهناك، ولا بطبع
وبيع ورق الدواوين أو بإسقاطات القراءات المادحة ولا تلك التي تفتقر إلى الأدوات
المقارباتية وإلى الرؤيا الجمالية فتقف عند استعراض مصطلحات نقدية يابانية لا تقدم
سوى الإغراق في أكاديمية عقيمة وإطلاق أحكام قيمة لا سند لها.
إن بلوغ هذا السمو الجمالي والشعري في
الهايكو رهين بشحنة قوية من الوجدان ومساحة من التأمل مع التمتع بمدخرات شخصية ومعين
خصب من الموهبة.
شعرية المناخات المشهدية من معايير الهايكو الجيد
كما نراهن، من جانب آخر، إلى أن يصار
بمفهوم "شعرية المناخات المشهدية" أحد المعايير
الأساس في تقييم جودة الهايكو وأصالته بعد استيفائه (ابتداء) للمقومات
الضرورية التي يتطلبها النوع من حيث اللغة والإيجاز والشكل والبنية.
مقاربة في شعرية المناخات
![]() |
Mari Angels Olmo- España |
Sobre la mesa
una carta arrugada
Lluvia de la noche
Sur la table
une lettre froissée
Pluie nocturne
على الطاولة
رسالة مجعدة/مكمشة
مطر الليل
هايكو بمنسوب عال من التلميح الذي يؤمن
(بالشدة على الميم) خروج الهايكو من عتبة سطحية القول وشكلانية الوصف إلى شاعرية
الإضمار.
لا مؤشر لغوي على تواجد مادي للهايجن. غير أنه حاضر، بين تلابيب النص،
بوجدان قوي، إذ الهايكو ليس مثلثا فارغا يمكن أن يستغني عن الوجدان.
من جانب آخر، لا مؤشر على سبب العبث بالرسالة
أو من تركها على الطاولة، إذ ليس من مهام الهايكو الشرح والتفسير وتقديم الأسباب. غير أن حالة الرسالة ومكانها المكشوف تؤشر
على درجة من الانكسار أو العجز الصامت وانقطاع حبل التواصل.
من خلال العناصر الناسجة للهايكو نستشف:
-
حالة من الوحدة وإحساس قوي بالتغير
والعبور من حالة إلى أخرى (سطر1 + 2).
-
مسحة من الشجن على مستوى السطر (3). إن
مطرا منهمرا في ساعة الليل الذي غالبا ما يتسم
بالهدوء يعمق الشعور بالعزلة والقلق والكآبة.
-
تقابل الصمت (س1 +2) والصوت (س3) يعزز
التداخل والتفاعل بين الداخل (س1+2)
والخارج (س3). فعلى الرغم من إحساس الوحدة والسكون في الداخل (بيت
مسكن، غرفة فندق...)، هناك تواصل مع الطبيعة في الخارج عبر حركة وصوت المطر
المنهمر ليلا. ولعل في ذلك بعض المواساة للهايجن/
المتكلم.