![]() |
محمد بنفارس- المغرب |
الصدق الفني
أساس شعرية المناخات المشهدية
تقديم
ليس من مهمة الهايجن الزج، على نحو مباشر
وفج، بالإيديولوجيا والتقارير الإخبارية والحربية تحت ذريعة أن كل المواضيع تصلح
للهايكو.
مهمة الهايجن هي إنتاج الشعرية والجمالية انطلاقا من تجارب وملاحظات يومية ومكابدة
شخصية، حتى لو كانت أحداثا قاسية أو أشياء تقاس بمعيار القبح أوالجمال أوالمنفعة من
عدمها.. كما أن التعاطف والتضامن المباشر لا ينبغي أن يكونا مطية (إنسانية) لتخريب
النوع بإنتاج أي شيء تحت يافطة الهايكو بدعوى إسناد القضايا الكبرى أكانت وطنية أو
دينية أو عالمية.
إن التعبير عن الرأي والمواقف له مجالاته
وله نوافذ ووسائط كثيرة ومتنوعة. وعلينا أن نقتنع بأن الهايكو، لطبيعته الموجزة
ولماهيته الجمالية، لا يمكنه أن يسع كل شيء وبأي طريقة. فالهايكو الذي نعنيه يتسم بشعرية
المناخات المشهدية التي تقوم على المشهد المحسوس فتنقل المتلقي إلى أجواء وجدانية
من المشاركة وتقاسم المشترك.
إن التركيز على الموضوع أو الغرض وتحديد
القصد مسبقا لا ينتج شعرية حتى في الشعر، فما بالك في نوع أسسه أصحابه ليكون فنا
يتجاوز الشروط والأدوات المستنفرة في أنماط القول الأخرى.
في التالي، نعرض
لنصوص نعتبرها تستجيب لشعرية المناخات المشهدية:
1. أضواء عابرة
![]() |
شاهناز يوسف- سوريا |
أضواء عابرة،
عين على الطريق وأخرى
على القمر
نص راق لي على مستوى الشكل وأيضا على مستوى
المناخ الشعري الذي ينتجه ويتقاسمه مع القارئ. القلق والتمزق سمة تطبع الشكل كما تسري
على الوجدان. ما يدفع بركن النص ضمن الهايكو المعاصر الذي يهدف إلى تحقيق نقلة
نوعية في الابتعاد عن الهايكو الكلاسيكي عبر تناول قضايا الإنسان المعاصر وما يحيط
به من دوامة عدم الاستقرار وعدم اليقين والحروب وتعميق هشاشته. وما النظر إلى
الطريق تارة، وتارة إلى القمر سوى حالة من الارتباك والهلع للتأكد من أن شيئا
عظيما لا يقع.
وكمقترح يروم استبعاد السرد وتجنب "واو
العطف"، وتعزيز منسوب القلق والتشظي، وإضفاء نغمة موسيقية مترددة بالتكرار،
ما يحقق تناسبا بين الشكل والمضمون دون المس بالنص الأصل:
أضواء عابرة،
عين على الطريق
عين على القمر
lumières
fugaces,
regard
sur le chemin
un
autre sur la lune
2.
حقول القمح الخضراء
حقول القمح
الخضراء
القبرة تصعد ثم...
فجأة تنزل
champs verts de
blé
l'alouette
monte puis...
subitement
redescend
أواجيما اونيتسورا
[1]Onitsura Uejima
من بديهيات نجاح
الهايكو البساطة ودقة اللحظة.
هايكو وصفي
اعتمد حاسة البصر. بل ويمكن أيضا أن ندمج السمع بتصور رفرفات صعود ونزول القبرة.
هايكو كلاسيكي
بإشارة موسمية تضع فرشا لمناخ شعري بسمات ربيع أخضر.
هايكو ينقل
الحدث كما وقع دون إقحام أو زخرف أو إلهاء. هايكو أونيتسورا يجسد حركية الكون بحيث
تظل اللحظة تبرق في أذهاننا إلى درجة أننا ننسى اللغة التي كتب بها. بل يصعب الحديث
عن "معنى" أو "موضوع" محدد في هايكو يموج بالحياة ويتسم
بالجمال الخالص.
المشهد في كليته
يحيل على مناخ شاعري هو حالة وجدانية من الانبهار والغموض والتأمل.
لا أحد يمكن أن
يعرف دواعي صعود القبرة ونزولها المفاجئ. من هنا المنسوب العالي للصمت والإضمار في
الهايكو ما يستدعي تفاعلا نشطا ويقظة من المتلقي.
هايكو ينبض بالنفس صعودا ونزولا تماما كالحياة في شراييننا. هايكو بشعرية مناخات تأخذ بوجدان القارئ المتذوق للجمال الخالي من الأغراض النفعية والوظيفية.
3. كسوف
![]() |
زايا يوخنا- سوريا |
كسوف
أخيراً الشمس والقمر
وجهاً لوجه
لقطة لمشهد نادر الحدوث، ورؤيته فرصة لا تتاح
للجميع. في تنح محترف ولكن بحضور كامل في أوار المحدث، نرتقي إلى لحظة مثيرة بين
الشمس والقمر في عناق طبيعي يستأثر باهتمام الناس في أرجاء المعمور.
لو تم إدخال تعديل بسيط على ترتيب الأسطر ربما
ستكون النهاية بذلك الأثر الذي يسحر الألباب من فرط الانبهار بعظمة الكون دون نية
مبيتة للإبهار من قبل الهايجن:
كسوف
أخيراً وجهاً لوجه
الشمس والقمر
على هذا النحو،
نكون أمام سطر وسيط بمثابة معبر من العام إلى الخاص، مع التهيئة لوضع حد للترقب
عند المتلقي بتوظيف كلمة "أخيرا". وهكذا نمر من حالة انتظار نتوقعها مواجهة
حاسمة، إلى لقاء انسجام وتآلف مثير بين النهار والليل (الشمس والقمر).
éclipse
enfin face à
face
le soleil et
la lune
خاتمة
ولإن انتمت النصوص التي
تناولناها لأزمنة مختلفة واحتكمت للظروف التي أنتجتها، فإن ما يجمعها هو الصدق
الفني في التفاعل مع المحيط وأشيائه بكل بساطة القول، مع ترك مساحة جيدة من
البياض، ما ينتج تفاعلا حيا من المتلقي النبيه الذي يجتهد في عملية الكشف عن طريق
التوقف والتساؤل والصمت والتأمل.
إنها المشاركة الوجدانية أو ما نعتبره "شعرية المناخات" التي تسحر انطلاقا من مشهد عادي جدا، ولكن الهايجن المتمرس يرقى به إلى مادة شعرية جديرة بالاحتفاء والتذوق.