إعلان الرئيسية

الصفحة الرئيسية في ترجمة الهايكو - القرار الصعب

في ترجمة الهايكو - القرار الصعب

حجم الخط

محمد بنفارس- المغرب



في ترجمة الهايكو 

القرار الصعب

                                            

                                          



لا يمكن لأحد إنكار القيمة التثاقفية والعلمية والأدبية والخدماتية والتواصلية للترجمة . ولذلك لن يكون أبدا من مسوغات الدفاع عن اللغة العربية أو أي لغة وطنية أخرى إنكار الترجمة أو معاداة لغات الأمم الأخرى. ومن نافلة القول التذكير بأنه لولا الترجمة لما عرفت ديار العرب وأمم أخرى فنا في القول اسمه: الهايكو. فتحية عالية لرواد الترجمة الأوائل ولكل من ساهم ويساهم في هذه المهمة العظيمة.

غير أن الترجمة أكبر من مجرد تكوين أو معرفة باللغات أو مزاولة وظيفة. إنها مكابدة حقيقية وشغف كبير. ومن لم يصب بدوار الترجمة ويحترق بعدم اليقين في دهاليزها لا يستطيع إدراك متاهاتها وصعوباتها وأيضا المتعة التي تتيحها.

ومن المؤكد أن ترمومتر الحرارة أو البرودة يرتفع أو ينخفض عندما يتعلق الأمر بالهايكو على وجه الخصوص لأنه من أقصر النصوص على الإطلاق، ما يعني أن ترجمته لا تترك مساحة كافية للمناورة بالنسبة للمترجمين.

ولذلك نعتبر أن من لم يختبر خيبات الترجمة ومتعتها، بل ولم يمسس نصا واحدا، لا ذهابا ولا إيابا، في طريقها الشاق، يكون متطفلا عندما يتحدث عن الترجمة، ومدعيا عندما يحاور مترجما في موضوع يجهله تماما، اللهم من جمل ومقولات معلبة وصلت إليه من هنا وهناك.

وما يثير الشفقة والغضب في آن، عندما يدعي الواحد معلقا بأن الترجمة خانت النص أو قضمت من مكوناته الشكلية، أو لم تلامس روحه، في حين تراه يجهل تمام الجهل اللغة التي كتب به النص.  وتجد آخر يدخل على نص يجهل لغته مقترحا تعديلا يقلب بموجبه النص الأول رأسا على عقب، بحيث يكون الهايجن خارج النص (شاهدا) فيصبح بقدرة قادر لاعبا من داخل المشهد. بذلك يرغم الهايجن على اختبار تجربة مزدوجة بالكتابة كمعاين والتمثيل أيضا.. أي تجربة لم يختبرها شخصيا بل ربما لم يتصورها أصلا. ما يطرح مسألة احترام النص الأصل وترك الترجمة لمن يكابد إشكالاتها من الداخل.

من جانب آخر، لا يصح أبدا أن تكون ترجمة الهايكو موضع تباه أو تعال أو يقين. كما أن الترجمة ليست، على كل حال وفي جميع الأحوال، إبداعا. ولو ادعى المترجمون أو من يدلون برأي في مجال هم أبعد ما يكونون عنه. الترجمة تمرين صعب واختبار شخصي للمترجم، هي تجربة ينبغي أن تتسم بالمساءلة الشخصية وبقدر كبير من التواضع وقدر من الشك.

فالمترجم الحق يعلم جيدا محدودية عمله، كما أنه يعي جيدا تماوج الحقل وانزلاق التربة التي يتحرك عليها، وبالتالي لا يغيب عن باله لحظة واحدة، وهو يكابد تجربة الفعل الترجمي، يقينا ترجميا وهو استحالة- أو على الأقل صعوبة- اليقين في ترجمة الهايكو.

فالهايكو نص مضغوط جدا ولا يترك مجالا للمناورة والتصرف أمام المترجم، ولذلك يعتبر حسم القرارات الترجمية للهايكو من أصعب القرارات التي تواجه المترجمين. ومن هنا اختلاف الترجمات من مترجم إلى آخر حسب زاوية قراءة النص المستهدف بالترجمة، وأيضا حسب كفاية فعل القراءة ومنسوب التذوق عند كل مترجم، أي حسب شخصية المترجم نفسه.

وكمثال على تعدد الترجمات نسوق كمثال هايكو الضفدع الشهير للمعلم باشو[1] الذي ترجم بأشكال مختلفة، ليس فقط فيما بين اللغات، بل داخل اللغة الواحدة:

1

يا للبركة العتيقة!

يقفز الضفدع

ويتردد صوت الماء

__ محمد عضيمة[2]

2

يا للبركة العتيقة!

يقفز الضفدع

ويتردد الماء.

3

يا للبركة العتيقة،

قفزت ضفدعة

صوت الماء.

4

بركة قديمة

تنط الضفدعة

صوت الماء

5

بركة قديمة

قفزة ضفدع

يا لصوت الماء

6

بركة قديمة

يقفز ضفدع

طرطشة

 

       إن الترجمات أعلاه جاءت من لغة وسيطة كالإنجليزية أو الفرنسية باستثناء الترجمة الأولى لعضيمة والتي اعتمدت النص بلغته الأصل، أي اليابانية. والترجمات إياها حاولت نقل النص المنطلق بناء على رؤية المترجم الذي يركز على هذا الجانب أو ذاك: فبينما ركز المترجم محمد عضيمة على قدم البركة بإضافة أداة وعلامة التعجب (يا /!)، ركز آخرون على الجانب الصوتي (رقم4، 5) وخاصة (رقم6) الذي استعمل كلمة تقلد الصوت (onomatopée)، في حين اهتمت ترجمات أخرى بالجانب البصري وأحيانا بجمع البصري والصوتي معا (1، 3 و4).

هل الترجمات التي أوردناها استطاعت الاقتراب من النص الأصل؟ على أننا نقصد بالاقتراب من النص الأصل، نقل المناخ الشعري الذي خبره الهايجن ويود أن يتشاركه مع قارئه. هنا يكمن التحدي أمام اختلاف اللغات ومخارج الحروف وجرسها...، وهنا أيضا يكمن ملعب المناورة المتاح للمترجم إن هو تمكن من النفاذ لجوهر النص متجاوزا ما هو شكلي ومنطوق.

ولذلك نعتبر أن النص المترجم لن يكون أبدا هو النص الأصل، لسبب وجيه هو أن النص الأصل هو ثمرة فعل الكتابة وما يرافق هذا الفعل من طقوس ووجدان وذاكرة وثقافة وتمثلات وحرية لا محدودة لمبدع النص، في حين يعتبر النص المترجم ثمرة فعل القراءة، وما يشمله- كما أسلفنا- من تكوين ومهارات قرائية وميول ذاتية وذائقة عند المترجم، وكذا حدود المناورة التي يفرضها النص المنطلق.



[1](1664- 1694) شاعر ياباني يعتبر المؤسس والمعلم الأول للهايكو.

[2] شاعر سوري معاصر وناقد ومترجم وأستاذ اللغة العربية بجامعة طوكيو للدراسات الأجنبية. ترجمة النص وردت في كتاب: ماتسوو باشو، الأعمال الكاملة، دار التكوين، دمشق 2022. 


ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق