![]() |
| ذ. حسني التهامي* |
في
تناول نص الهايكو
هايكو العالم: 19 نوفمبر 2024
يعد تناول نص الهايكو واحدا من التحديات التي نواجهها في تأصيل تجربة الهايكو العربية، لا سيما أن هذا اللون الأدبي جديد على الساحة الشعرية في عالمنا العربي. فوعي القارئ وكيفية تلقيه لهذا الفن لم يكتمل بعد، لعدم درايته الكاملة بخصائص وجماليات هذه التجربة الوليدة. أضف إلى ذلك أن بعض الذين يتناولون نص الهايكو تغريهم حداثة المشهد، فنراهم يكتبون بشكل ساذج، دون التطرق إلى خصائص وجماليات هذا الفن. ولعدم درايتهم بطبيعة الهايكو كلقطة جمالية تكتنفها الدهشة، تجعلهم يلجأون إلى تفسير وتأويل النص ويحملون هذا المشهد المختزل الذي قد لا يتعدى الست كلمات في بعض النصوص ما لا يطيق، وهم بذلك يعتقدون أنهم يقرّبون القارئ من روح الهايكو التي لا علاقة لها في الأساس بمسألة التأويل والتفسير.
نحن بصدد نص لا حضور للذات فيه أو المشاعر التي تنساب من ثنايا الكلمات. لا شيء سوى المشهدية الحسيّة التي يلتقطها الرائي بصورة عفوية في لحظة جمالية عابرة دون أدنى التفاتة لمعنى جوهري أو رمز أو استعارة. فالهايكو كما يقول رولان بارت: "أبعد ما يكون عن فكرة مكتنزة تم إيجازها، لكنه حدث مختصر قادر على بلورة شكله المناسب بصورة فورية" (امبراطورية العلامات).
فالهايكو ليس تعبيرا عن القضايا الكبرى، ولا يكترث
بالمعاني أو الدلالات؛ لأنه نص عفوي يحقق الانصهار بين الذات الإنسانية والأشياء.
هذا التماهي بين الذات الشاعرة والطبيعة البسيطة ليس له مسمى غير العفوية. ينتج عن
هذه الكتابة العفوية توسيع نطاق الرؤية الإبداعية التي - على الرغم من واقعيتها -
تتخطى حدود المكان والزمان .
لنتأمل نص باشو:
بركة قديمة
ضفدع يقفز
طرطشة الماء
نحن هنا بصدد مشهد مختزل وعفوي من الطبيعة؛ التقاطة
عابرة ليس القصد منها معنى عميق أو فكرة كبيرة. فقفزة الضفدع داخل الماء لم تكن
مرصودة وكأن الشاعر قد رآها لأول مرة في تلك البركة العتيقة. تلك الالتفاتة للقطة
العابرة تعكس مدى الحميمية بين روح الشاعر والطبيعة في لحظات من الهدوء والفراغ. وعلى
الرغم من أن رؤية الشاعر مبنية على الواقع، إلا أنها تتجاوز الزمان والمكان. هذا
الانصهار بين الذات والطبيعة ينتج عنه العفوية في مفهوم فلسفة الزن.
في تحليل النص الأدبي يجب التزام المنهجية النقدية التي
تحتم اتباع مجموعة من الإجراءات التي من شانها إظهار جماليات النص ومكامن الدهشة
فيه. ولأن الهايكو شكل جديد على الشعرية العربية (قد لا يعرف الكثيرون بعضا من خصائصه
وجمالياته التي تميزه عن الأشكال الشعرية الأخرى)، كان لا بد علينا أن يخضع النص
إلى التحليل الفني المرتكز في الأساس على الأصول اليابانية، مع ميل إلى البحث عن
هوية عربية تستمّد خصوصيتها من عنصري اللغة والبيئة المحيطة بكل من الهايجن
والمتلقي. إن اللغة العربية لغة تتسم بالثراء والتجدد، ويمكن أن تضيف إلى نص
الهايكو من جمالياتها وموسيقاها الآسرة التي يمكن أن تكون عوضا عن التركيبة
الإيقاعية (5-7-5) الخاصة بالهايكو الكلاسيكي، علاوة على ثراء البيئة العربية
وخصوصيتها ومشاهدها اللا نهائية الفاتنة.
يخضع النص الكلاسيكي لخصائص كالمشهدية والموسمية والتنحي
والبساطة. تلك العناصر التي دأب على استخدامها الشعراء اليابانيون الأوائل في
كتابة هذا الفن. وما زال بعض الكتاب في عصرنا الحالي مفتونين بالشكل التقليدي
للهايكو بخصائصه وجمالياته، وهم على الرغم من ذلك، يرتكزون على عاملي اللغة
والبيئة لتقديم الهايكو بشكل مغاير عن الشكل الياباني. تقول الشاعرة التونسية هدى حاجي:
بأجنحتها الشفافة
تطير النملة الحمراء
إلى حتفها
...
قطعة الفلين الطافية
جسر النملة
بين البركة واليابسة
...
في غابة البامبو
السماء في الأعلى
قاع من لازورد
في تلك النصوص الثلاثة المختزلة تتسم كل من اللغة
والصورة بالبساطة؛ فالألفاظ تمتح عذوبتها من جمال العنصر الطبيعي الرقراق، كما تكتسب
الصور ديناميتها وتوهجها من حركة التفاصيل الكونية (تطير النملة الحمراء) في النص
الأول و(قطعة الفلين الطافية) في النص الثاني. بينما اعتمد النص الثالث على عنصر
المفارقة الناتج عن الجمع بين الأشياء المتناقضة (السماء في الأعلى – قاع من
لازورد) التي بدورها تحدث نوعا من التناغم بين جزئيات الصورة الشعرية، حيث تسلط
الهايجن بؤرة عدستها على تفاصيل لحظة جمالية عابرة. يخلق تجاور مشهدي النص نوعا من
الشرارة الناتجة عن المقارنة الداخلية أو ما نسميه بالمفارقة حال إدراك أي من
الهايكست أو القارئ لهذا التجاور. تلك الشرارة هي ما تجعل النص عالقا بالذهن عصيا
على النسيان، وهي التي تحقق أعلى درجات التوتر، وبها يصبح النص غاية في الإمتاع
والدهشة والجمال.
نادراً ما يصف
شاعر الهايكو شعوره الخاص، لكن التجاور بين مشهدي نصه ينقل لنا أحاسيسه، فهو لا
يقول كل شيء؛ لذا تحتاج سطوره الثلاثة الموجزة إلى قراءات متعددة وتعمق في الصور
الحسية كي تنبثق الأفكار وتتفجر المعاني بشكل أكثر عمقا وثراء. أحيانًا يكون
اكتشاف القارئ للمعاني العميقة وترابط مشهديات النص لحظة قراءته فوريًا وعميقًا،
وأحيانا أخرى يستغرق ذلك بعضا من الوقت؛ وهذا يتوقف على مدى قدرة القارئ على
استنباط ما بين السطور وبراعته في القبض على "لحظة الهايكو."
فيما يجنح شعراء نوع آخر من كتاب الهايكو إلى ارتياد نوع
تجريبي يتخلى عن بعض الاشتراطات كالموسمية
والتنحي والطبيعة، ويتناولون مشاهد المحيط البيئي بتفاصيلها الآسرة. لقد غدت
الغرفة والشارع والمقاهي وغيرها من البؤر التي لم يسبق للشعراء الأسبقين الالتفات
إليها، مع ذلك فقد أبقوا على المشهدية والاختزال والبساطة كخصائص لا غنى للهايكو
عنها، كي لا يفرغ من كونه لقطة جمالية
تختزل تجربة العالم بأكمله.
لعل تجربة "" الجنداي هايكو"، اليابانية
التي تناولت "المدينة" بتفاصيلها المتشعبة كموضوع حيوي تطرح مسألة
الحداثة على الساحة الشعرية؛ فقد تحرر شعراء هذه الحركة من بعض الخصائص المتعارف
عليها كالكيغو (الكلمة الموسمية) والطبيعة وخاصية التنحي والإيقاع المتمثل في
السبعة عشر مقطعا صوتيا (5-7-5). من أمثلة
هذا اللون الشعري الجديد، النصوص التالية للشاعر الياباني "بانيا ناتسوشي":
سحابة
شيطانٌ
ذو شعرٍ فضي
يُدوي
بالضحك
..
النظرُ
إلى الوراء
الرجل
الذي استقبلتُه للتو
ليس
إلا الضباب.
...
الذهبيُ
والأسود
في
اللوحة
أيهما
مستقبلنا؟
نلحظ
في مثل هذه النصوص ابتعادها عن وصف العالم الطبيعي، وتأثرها بالواقعية الأوروبية،
ونكاد نستشعر شعورا واضحا بالمخاوف والقلق من الأحداث المعاصرة للواقع الحياتي بما
في ذلك آثار الحرب العالمية وكوارثها اللانهائية، ومعاناة الإنسان المعاصر الجسدية
والنفسية من كوارثها اللا نهائية.
لنتأمل أيضا النص
التالي لذات الشاعر:
سفرٌ تحتَ البحر
ضوءٌ أصفر
وموسيقى أرجوانية
( شلال المستقبل – بانيا ناتسوشي)
تهيمن الذاتية على
المشهد، ويغلب المنحى السوريالي؛ وهاتان السمتان تشكلان تجربة الشاعر الحداثية. Miller". تكمن
إشكالية هذا النص - من وجهة نظر الشاعر والناقد بول ميلر
في أن النص
"غارق في الذاتية بحيث لا يستطيع [القراء] سبر أغواره بشكل كامل، وأن
الكاتب لا يأخذ مشاركة القراء في الاعتبار" . من الواضح أن شعراء الجنداي -
ومنهم ناتسوشي - يتجاهلون جمهورهم من خلال المنحى السوريالي الذي يجنح في الأساس
إلى التجارب الذاتية والانفعالية. مع ذلك، يبدو أنهم يسعون إلى تحقيق غاية جمالية
وفكرية في نصوص ذات ملمح سريالي. وفي الواقع لا يمكننا إنكار الجوانب المضيئة لتجربة
شعراء الجنداي الحداثية؛ فقد حملت عبء التجديد، وتناولت مواضيع تواكب العصر
بتشابكاته وصوره المتراكبة التي لم تكن موجودة في العصور السالفة التي بدأ الهايكو
يخط مساره من خلالها.
تمثل تجربة الشاعر المغربي سامح درويش في ديوانه
"خنافس مضيئة" منطلقا نحو الكتابة الحداثية شكلا ومضمونا. فمع الوعي
بخصائص الهايكو الكلاسيكي يتخذ الهايكست مسارا مغايرا، وينعكس ذلك على أسلوبه في
تشكيل بنية قصائده المختزلة والتي غالبا ما تجمع بين الخاص والكوني، في أحيان
كثيرة يمزج الهايجن هذين العنصرين عن طريق اشتراكهما في فعل الحدث، ولا يلتزم
بالطريقة الكلاسيكية التي تقضي بأن الهايكو شعور إنساني تجاه الطبيعة، على عكس ذلك
تتأثر الطبيعة أحيانا بالإنسان وتتجاوب مع مشاعره وعالمه الداخلي، فينتج عن هذه التقنية
أحداث مفاجئة تحدث المفارقة، وهي عنصر أساسي للدهشة:
بدغْدغَاتِ ظِلّ
يدِي،
تطِيرُ بهْجةً
سمَكاتُ الوَادي.
نلاحظ مدى
التماهي بين عنصري الطبيعة والإنسان حد تأثر الطبيعة ذاتها بالتفاصيل البشرية،
فسمكة الوادي بشكل مجازي تبتهج عندما تستشعر دغدغات ظل اليد، وتلك الصورة غير
مألوفة في الأنماط التقليدية. وكعادة الشاعر في معظم نصوص الديوان ينهي السطر
الأول بعلامة قطع، وهي غالبا ما تكون على شكل فاصلة تمنح القارئ مساحة للتأمل
والتأويل قبل أن يعرج على الحدث في السطرين التاليين.
حجَرة الوادِي
الملْساءْ،
ما صقَلَها
غيْرُ حنَان
الماءْ.
تعكس نصوص
ديوان خنافس مضيئة عمق تجربة الشاعر وجرأته في استكناه معالم الجمال الحقيقي عبر
التفاصيل الدقيقة والكائنات البسيطة. بكلمات بسيطة مختزلة تضمر معاني عميقة،
استطاع سامح درويش أن يصنع شكلا حداثيا من خلال ومضات مفاجئة من الحياة اليومية
تكشف لنا الحقيقة وينتابنا خلالها الاحساس بالكمال. إنها اللحظة الجمالية التي
يتماهى فيها الشاعر تماماً مع ما حوله من عناصر الطبيعةِ، ليشكّل مشهدَه الشعرى
بطريقة تأملِية وصوفية، وعندَ القبض على هذه اللحظةِ يدركُ كُنْهَ الأشياء
وطبائعَها ويتوحدُ معها. تعطي جمالية (الاستنارة)، الجلية في معظم قصائد الديوان
رؤيةً جديدةً وفهماً عميقاً للأشياءِ العادية في لحظةٍ خاصةٍ من الشعورِ والصحوة:
قصْفٌ مُضادّ،
أخْفَض منْ
طائراتِ القصْف
تُحلق طائراتٌ
ورقيّة
إن فن الكتابة في رأي كونراد هو أنه " يجعلك
تسمع، وتشعر، وقبل كل شيء، يجعلك ترى"، وهنا يكون للعقل دور كبير
في العملية الإبداعية، فهو يقوم بعملية "المقارنة المفاجئة" التي تحدث
نوعا من الاستنارة الحقيقية أو صدمة الوعي نتيجة الإدراك المفاجئ للحقائق الكامنة
في الوجود. يعقد الشاعر في نصه مقارنة ذكية بين طائرات القصف والطائرات الورقية
التي يستخدمها الأطفال الأبرياء في اللعب، وبهذه المقارنة البارعة تكون المواجهة
بين قطبين متنافرين، براءة الطفولة ووحشية الحرب. استخدم الشاعر كلمة "
أخفض" كي يعبر عن شدة وعي الطفولة بقوانين لعبة الحرب، فغالبا ما تحلق الطائرات
بشكل منخفض كي تتحاشى رادارات العدو لالتقاطها وتنجح في مهمتها. هنا يريد الشاعر
أن يخبرنا أن الغلبة في النهاية ستكون للبراءة، للطفولة الغضة والواعية بالفطرة،
على الرغم من إمكانات قوى الظلام والهمجية. استطاع سامح درويش أن يقبض على لحظة
الهايكو ونجح في تشكيل مشهده الشعري عبر عقد مقارنة واعية تعكس عمقا في النظرة
للأشياء والتوحد معها.
*مترجم،
ناقد ورئيس نادي: هايكو مصر- مصر
